سورة القصص - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


ولما أخبر، بتهيئه لنبوته، أخبر بما هو سبب لهجرته، وكأنها سنت بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: {ودخل المدينة} أي مدينة فرعون آتياً من قصره، لأنه كان عنده بمنزلة الولد، قال ابن جرير: وهي مدينة منف من مصر، وقال البغوي: وقيل: عين الشمس. وقيل غير ذلك {على حين غفلة} قبل بعيد: وقيل بغير ذلك {من أهلها} أي إحكاماً لما جعلناه سبباً لنقلته منها طهارة من عشرة القوم الظالمين {فوجد فيها} أي المدينة {رجلين يقتتلان} أي يفعلان مقدمات القتل من الملازمة مع الخنق والضرب، وهما إسرائيلي وقبطي، ولذا قال مجيباً لمن كأنه يسأل عنهما وهو ينظر إليهما: {هذا من شيعته} أي من بني إسرائيل قومه {وهذا من عدوه} أي القبط، وكان قد حصل لبني إسرائيل به عز لكونه ربيب الملك، مع أن مرضعته منهم، لا يظنون أن سبب ذلك الرضاع {فاستغاثه} أي طلب منه {الذي من شيعته} أن يغيثه {على الذي من عدوه فوكزه} أي فأجابه {موسى} فركز أي فطعن ودفع بيده العدو أو ضربه بجميع كفه، وكأنه كالكم، أو دفعه بأطراف أصابعه، وهو رجل أيد لم يعط أحد من أهل ذلك الزمان مثل ما أعطي من القوى الذاتية والمعنوية {فقضى} أي فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة، وهو الموت الذي لا ينجو منه بشر {عليه} فقتله وفرغ منه وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة، فلم يشعر به أحد منهم.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا الأمر عظيم، فما ترتب عليه من قول من أوتي حكماً وعلماً؟ أجيب بالإخبار عنه بأنه ندم عليه في الحال بقوله: {قال} أي موسى عليه السلام: {هذا} أي الفعل الذي جرك إليه الإسرائيلي {من عمل الشيطان} أي لأني لم أومر به على الخصوص، ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً؛ ثم أخبر عن حال الشيطان بما هو عالم به، مؤكداً له حملاً لنفسه على شدة الاحتراس والحذر منه فقال: {إنه عدو} ومع كونه عدواً ينبغي الحذر منه فهو {مضل} لا يقود إلى خير أصلاً، ومع ذلك فهو {مبين} أي عداوته وإضلاله في غاية البيان، ما في شيء منهما خفاء.
ولما كان هذا الكافر ليس فيه شيء غير الندم لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأته في قتله إذن خاص، وكان قد أخبر عنه بالندم، تشوفت أنفس البصراء إلى الاستغفار عنه، علماً منهم بأن عادة الأنبياء وأهل الدرجات العلية استعظام الهفوات، فأجيبوا بالإخبار عن مبادرته إلى ذلك بقوله: {قال} وأسقط أداة النداء، على عادة أهل الاصطفاء، فقال: {رب} أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان حال المقدم على شيء دالة على إرادته فاستحسانه إياه، أكد قوله إعلاماً بأن باطنه على غير ما دل عليه ظاهرة فقال: {إني ظلمت نفسي} أي بالإقدام على ما لم يتقدم إليّ فيه إذن بالخصوص وإن كان مباحاً.
ولما كان المقرب قد يعد حسنة غيره سيئته، قال مسبباً عن ذلك: {فاغفر} أي امح هذه الهفوة عينها وأثرها {لي} أي لأجلي لا تؤاخذني {فغفر} أي أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً {له} ثم علل ذلك بقوله مشيراً إلى أن صفة غيره عدم بالنسبة إلى صفته مؤكداً لذلك: {إنه هو} أي وحده {الغفور} أي البالغ في صفة الستر لكل من يريد {الرحيم} أي العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية، ولأجل أن هذه صفته، رده إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجاه منهم قبل الرسالة على غير قياس.
ولما أنعم عليه سبحانه بالإجابة إلى سؤله، تشوف السامع إلى شكره عليها فأجيب بقوله: {قال رب} أي أيها المحسن إليّ بكل جميل. ولما كان جعل الشيء عوضاً لشيء أثبت له وأجدر بإمضاء العزم عليه قال: {بما أنعمت عليّ} أي بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها. ولما كان في سياق التعظيم للنعمة، كرر حرف السبب تأكيداً للكلام، وتعريفاً أن المقرون به مسبب عن الإنعام، وقرنه بأداة النفي الدالة على التأكيد فقال: {فلن أكون ظهيراً} أي عشيراً أو خليطاً أو معيناً {للمجرمين} أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، أي لا أكون بين ظهراني القبط، فإن فسادهم كثير، وظلمهم لعبادك أبناء أوليائك متواصل وكبير، لا قدرة لي على ترك نصرتهم، وذلك يجر إلى أمثال هذه الفعلة، فلا أصلح من المهاجرة لهم، وهذا من قول العرب: جاءنا في ظهرته- بالضم وبالكسر وبالتحريك، وظاهرته، أي عشيرته.
ولما ذكر القتل وأتبعه ما هو الأهم من أمره بالنظر إلى الآخرة، ذكر ما تسبب عنه من أحوال الدنيا فقال: {فأصبح} أي موسى عليه الصلاة والسلام {في المدينة} أي التي قتل القتيل فيها {خائفاً} أي بسبب قتله له {يترقب} أي لازم الخوف كثير الالتفات برقبته ذعراً من طارقة تطرقه في ذلك، قال البغوي: والترقب: انتظار المكروه. {فإذا} أي ففجئه {الذي استنصره} أي طلب نصرته من شيعته {بالأمس} أي اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ من قبله {يستصرخه} أي يطلب ما يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطي آخر كان يظلمه، فكأنه قيل: فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره؟ فقيل: {قال له} أي لهذا المستصرخ {موسى}.
ولما كان الحال متقضياً أن ذلك الإسرائيلي يمكث مدة لا يخاصم أحداً خوفاً من جريرة ذلك القتيل، أكد قوله: {إنك لغوي} أي صاحب ضلال بالغ {مبين} أي واضح الضلال غير خفيه، لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً؛ ثم دنا منهما لينصره؛ ثم قال مشيراً بالفاء إلى المبادرة إلى إصراخه: {فلما} وأثبت الحرف الذي أصله المصدر تأكيداً لمعنى الإرادة فقال: {أن أراد} أي شاء، وطلب وقصد مصدقاً ذلك بالمشي {أن يبطش} أي موسى عليه الصلاة والسلام {بالذي هو عدو لهما} أي من القبط بأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه {قال} أي الإسرائيلي الغوي لأجل ما رأى من غضبه وكلمه به من الكلام الغص ظاناً أنه ما دنا إلا يريد البطش به هو، لما أوقعه فيه لا بعدوه: {يا موسى} ناصاً عليه باسمه العلم دفعاً لكل لبس منكر الفعلة الذي اعتقده لما رآه من دنوه إليهما غضبان وهو يذمه {أتريد أن تقتلني} أي اليوم وأنا من شيعتك {كما قتلت نفساً بالأمس} أي من شيعة أعدائنا، والذي دل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق بكون الكلام معه- بما أشير إليه بدخول المدينة على حين غفلة من أنهم لم يره أحد غير الإسرائيلي، وبقوله: {عدو لهما} من ذم الإسرائيلي كما صرح به موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما نم عليه وأفشى ما لا يعلمه غيره، خاف غائلته فزاد في الإغراء به. مؤكداً بقوله: {إن} أي ما {تريد إلا أن تكون} أي كوناً راسخاً {جباراً} أي قاهراً غالباً؛ قال أبو حيان: وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. {في الأرض} أي التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد {وما تريد} أي يتجدد لك إرادة {أن تكون} أي بما هو لك كالجبلة {من المصلحين} أي العريقين في الصلاح، فإن المصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة، فلما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي، وكانوا- لما قتل ذلك القبطي- ظنوا في بني إسرائيل، فأغروا فرعون بهم فقال: هل من بينة، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا ينبغي له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت- كما ذكر ذلك في حديث المفتون الذي رواه أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما، فلما قال هذا الغوي هذه المقالة تحقق الأمر في موسى عليه الصلاة والسلام.


ولما كان تقدير الكلام الذي أرشد إليه السياق: فلما سمع الفرعوني قول الإسرائيلي تركه. ثم رقي الكلام إلى أن ببغ فرعون فوقع الكلام في الأمر بقتل موسى عليه الصلاة والسلام، عطف عليه قوله: {وجاء رجل} أي ممن يحب موسى عليه الصلاة والسلام. ولما كان الأمر مهماً، يحتاج إلى مزيد عزم وعظم قوة، قدم فاعل المجيء على متعلقه بخلاف ما في سورة يس.
ولما كان في بيان الاقتدار على الأمور الهائلة من الأخذ بالخناق حتى يقول القائل: لا خلاص، ثم الإسعاف بالفرج حتى يقول: لا هلاك، قال واصفاً للرجل: {من أقصا المدينة} أي أبعدها مكاناً، وبين أنه كان ماشياً بقوله: {يسعى} ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه فكأنه قيل: ما فعل؟ فقيل: {قال} منادياً له باسمه تعطفاً وإزالة للبس: {يا موسى} وأكد إشارة إلى أن الأمر قد دهم فلا يسع الوقت الاستفصال فقال: {إن الملأ} أي أشراف القبط الذين في أيديهم الحل والعقد، لأن لهم القدرة على الأمر والنهي {يأتمرون بك} أي يتشاورون بسببك، حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاًّ منهم يأمر الآخر ويأتمر بأمره، فكأنه قيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: {ليقتلوك} لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم {فاخرج} أي من هذه المدينة؛ ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرق من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك: {إني لك} أي خاصة {من الناصحين} أي العريقين في نصحك {فخرج} أي موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً {منها} أي المدينة لما علم من صدق قوله مما حفّه من القرائن، حال كونه {خائفاً} على نفسه من آل فرعون {يترقب} أي يكثر الالتفات بإدراة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد؛ ثم وصل به على طريق الاستئناف قوله: {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام: {رب} أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد والتربية وغير ذلك من وجوه البر {نجني} أي خلصني، مشتق من النجوة، وهو المكان العالي الذي لا يصل إليه كل أحد {من القوم الظالمين} أي الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم، فاستجاب الله له فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين، فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أن الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر، جرياً على عادة الخائفين الهاربين في المشي عسافاً، أو سلوك ثنيات الطريق فانثنوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم.
ولما دعا بهذا الدعاء، أعلم الله تعالى باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة فقال: {ولما} أي فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ولما {توجه} أي أقبل بوجهه قاصداً {تلقاء} أي الطريق الذي يلاقي سالكه أرض {مدين} مدينة نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام متوجهاً بقلبه إلى ربه {قال} أي لكونه لا يعرف الطريق: {عسى} أي خليق وجدير وحقيق.
ولما كانت عنايته بالله أتم لما له من عظيم المراقبة، قال مقدماً له: {ربي} أي المحسن إليّ بعظيم التربية في الأمور المهلكة {أن يهديني سواء} أي عدل ووسط {السبيل} وهو الطريق الذي يطلعه عليها من غير اعوجاج.
ولما كان التقدير: فوصل إلى المدينة، بنى عليه قوله: {ولما ورد} أي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب {ماء مدين} أي الذي يستقي منها الرعاء {وجد عليه} أي على الماء {أمة} أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصَدوا، فلذلك هم عالون غالبون على الماء؛ ثم بين نوعهم بقوله: {من الناس} وبين عملهم أيضاً بقوله: {يسقون} أي مواشيهم، وحذف المفعول لأنه غير مراد، والمراد الفعل، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنماً بل مطلق الذياد وترك السقي {ووجد من دونهم} أي وجداناً مبتدئاً من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء {امرأتين} عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها {تذودان} أي توجدان الذود، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف الضررين، فتكفان أغنامهما إذا نزعت من العطش إلى الملأ لئلا تخلط بغنم الناس.
ولما كان هذا حالاً موجباً للسؤال عنه، كان كأنه قيل: فما قال لهما؟ قيل: {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام رحمة لهما: {ما خطبكما} أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما، وهوكالتعبير بالشأن عن المشؤون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمه، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي؛ قال أبو حيان: والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد.
ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة {قالتا} أي اعتذاراً عن حالهما ذلك؛ وتلويحاً باحتياجهما إلى المساعدة: {لا} أي خبرنا أنا لا {نسقي} أي مواشينا، وحذفه للعلم به {حتى يصدر} أي ينصرف ويرجع {الرعاء} أي عن الماء لئلا يخالطهم- هذا على قراءة أبي عمرو وابن عامر بفتح الياء وضم الدال ثلاثياً، والمعنى على قراءة الباقين بالضم والكسر: يوجدوا الرد والصرف.
ولما كان التقدير: لأنا من النساء، وكان المقام يقتضي لصغر سنهما أن لهما أباً، وأن لا إخوة لهما وإلا لكفوهما ذلك، عطفتا على هذا المقدر قولهما: {وأبونا شيخ كبير} أي لا يستطيع لكبره أن يسقي، فاضطررنا إلى ما ترى، وهذا اعتذار أيضاً عن كون أبيهما أرسلهما لذلك لأنه ليس بمحظور، فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة، وعاداتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة {فسقى} أي موسى عليه الصلاة والسلام {لهما} لما علم ضرورتهما، انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف، مع ما به من النصب والجوع {ثم تولى} أي انصرف موسى عليه الصلاة والسلام جاعلاً ظهره يلي ما كان يليه وجهه {إلى الظل} أي ليقيل تحته ويستريح، مقبلاً على الخالق بعد ما قضى من نصيحة الخلائق، وعرفه لوقوع العلم بأن بقعة لا تكاد تخلو من شيء له ظل ولا سيما أماكن المياه {فقال} لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص {رب}.
ولما كان حاله في عظيم صبره حاله من لا يطلب، أكد سؤاله إعلاماً بشديد تشوقه لما سأل فيه وزيادة في التضرع والرقة، فقال: {إني} ولأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون إلى فقال: {لما} أي لأي شيء. ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسبباً عن القضاء الآتي عن العلي الكبير، عبر بالإنزال وعبر بالماضي تعميماً لحالة الافتقار، وتحققاً لإنجاز الوعد بالرزق فقال: {أنزلت} ولعله حذف العائد اختصاراً لما به من الإعياء {إليّ من خير} أي ولو قل {فقير} أي مضرور، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان قد بلغ من الضر أن اخضر بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه بظهره. فانظر إلى هذين النبيين عليهما الصلاة والسلام في حالهما في ذات يدهما، وهما خلاصة ذلك الزمان، ليكون لك في ذلك أسوة، وتجعله إماماً وقدوة، وتقول: يا بأبي وأمي! ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الدنيا، صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها، رغعة لدرجاتهم عنده، واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك، وفي القصة ترغيب في الخير، وحث على المعاونة على البر، وبعث على بذل المعروف مع الجهد.


ولما كان سماعهما لقوله هذا مع إحسانه إليهما سبباً لدعاء شعيب عليه الصلاة والسلام له، قال بانياً على ما تقديره: فذهبت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه بخبرهما وبإحسانه إليهما، فأمر بدعائه ليكافئه: {فجاءته} أي بسبب قول الأب وعلى الفور {إحداهما} أي المرأتين حال كونها {تمشي} ولما كان الحياء كأنه مركب لها وهي متمكنة منه، مالكة لزمامه، عبر بأداة الاستعلاء فقال: {على استحياء} أي حياء موجود منها لأنها كلفت الإتيان إلى رجل أجنبي تكلمه وتماشيه؛ ثم استأنف الإخبار عما تشوف إليه السامع من أمرها فقال: {قالت} وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه في قولها: {إن أبي} وصورت حاله بالمضارع فقالت: {يدعوك ليجزيك} أي يعطيك مكافأة لك، لأن المكافأة من شيم الكرام، وقبولها لا غضاضة فيه {أجر ما سقيت لنا} أي مواشينا، فأسرع الإجابة لما بينهما من الملاءمة، ولذلك قال: {فلما} بالفاء {جاءه} أي موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام {وقص} أي موسى عليه الصلاة والسلام {عليه} أي شعيب عليه الصلاة والسلام {القصص} أي حدثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله، وتتبع له الأمور على ما هي عليه لما توسم فيه بما آتاه اله من الحكم والعلم من النصيحة والشفقة، والعلم والحكمة، والجلال والعظمة.
ولما كان من المعلوم أنه لا عيشة لخائف، فكان أهم ما إلى الإنسان الأمان، قدم له التأمين بأن {قال} أي شعيب له عليهما الصلاة والسلام: {لا تخف} أي فإن فرعون لا سلطان له على ما ههنا، ولأن عادة الله تعالى جرت أن تواضعك هذا ما كان في أحد إلا قضى الله برفعته، ولذلك كانت النتيجة: {نجوت} أي يا موسى {من القوم الظالمين} أي هو وغيره وإن كانوا في غاية القوة والعراقة في الظلم.
ولما اقتضى هذا القول أنه آواه إليه، علمت انتباه مضمونه، وكانتا قد رأتا من كفايته وديانته ما يرغب في عشرته، فتشوفت النفس إلى حالهما حينئذ، فقال مستأنفاً لذلك: {قالت إحداهما} أي المرأتين. قيل: وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها: {يا أبت استأجره} ليكفينا ما يهمنا؛ ثم عللت قولها فقالت مؤكدة إظهاراً لرغبتها في الخير واغتباطها به: {إن خير من استأجرت} لشيء من الأشياء {القوي} وهو هذا لما رأيناه من قوته في السقي {الأمين} لما تفرسنا فيه من حيائه، وعفته في نظره ومقاله وفعاله، وسائر أحواله؛ قال أبو حيان: وقولها قول حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الأمانة والكفاية في القائم بأمر فقد تم المقصود. {قال} أي شعيب عليه الصلاة والسلام، وهو في التوراة يسمى: رعوئيل- بفتح الراء وضم العين المهملة وإسكان الواو ثم همزة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ولام، ويثرو- بفتح التحتانية وإسكان المثلثة وضم الراء المهملة وإسكان الواو {إني أريد} يا موسى، والتأكيد لأجل أن الغريب قل ما يرغب فيه أول ما يقدم لا سيما من الرؤساء أتم الرغبة {أن أنكحك} أي أزوجك زواجاً، تكون وصلته كوصلة أحد الحنكين بالآخر {إحدى ابنتي}.
ولما كان يجوز أن يكون المنكح منهما غير المسقي لهما، نفى ذلك بقوله: {هاتين} أي الحاضرتين اللتين سقيت لهما، ليتأملهما فينظر من يقع اختياره عليها منهما ليعقد له عليها {على أن تأجرني} أي تجعل نفسك أجيراً عندي أو تجعل أجري على ذلك وثوابي {ثماني حجج} جمع حجة- بالكسر، أي سنين، أي العمل فيها بأن تكون أجيراً لي أستعملك فيما ينوبني من رعية الغنم وغيرها، وآجره- بالمد والقصر، من الأجر والإيجار، وكذلك أجر الأجير والمملوك وآجره: أعطاهما أجرهما {فإن أتممت} أي الثماني ببلوغ العقد بأن تجعلها {عشراً} أي عشر سنين {فمن} أي فذلك فضل من {عندك} غير واجب عليك، وكان تعيين الثماني لأنها- إذا أسقطت منها مدة الحمل- أقل سن يميز فيه الولد غالباً، والعشر أقل ما يمكن فيه البلوغ، لينظر سبطه إن قدر فيتوسم فيه بما يرى من قوله وفعله، والتعبير بما هو من الحج الذي هو القصد تفاؤلاً بأنها تكون من طيبها بمتابعة أمر الله وسعة رزقه وإفاضة نعمه ودفع نقمه أهلاً لأن تقصد أو يكون فيها الحج في كل واحدة منها إلى بيت الله الحرام.
ولما ذكر له هذا، أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال: {وما أريد أن أشق عليك} أي أدخل عليك مشقة في شيء من ذلك ولا غيره لازم أو غير لازم؛ ثم أكد معنى المساهلة بتأكيد وعد الملاءمة فقال: {ستجدني} ثم استثنى على قاعدة أولياء الله وأنبيائه في المراقبة على سبيل التنزل فقال: {إن شاء الله} أي الذي له جميع الأمر {من الصالحين} أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وكل ما تريد من خير {قال} أي موسى عليه السلام {ذلك} أي الذي ذكرت من الخيار وغيره {بيني وبينك} أي كائن بيننا على حكم النصفة والعدل والسواء على ما ألزمتني به لازماً، وما أشرت إلى التفضل به إحساناً، وعليك ما ألزمت به نفسك فرضاً وفضلاً؛ ثم بين وفسر ذلك بقوله: {أيما الأجلين} أي أيّ أجل منهما: الثماني أو العشر {قضيت} أي عملت العمل المشروط علي فيه خرجت به من العهدة {فلا عدوان} أي اعتداء بسبب ذلك لك ولا لأحد {علي} أي في طلب أكثر منه لأنه كما لا تجب على الزيادة على العشر لا تجب عليّ الزيادة على الثمان، وكأنه أشار بنفي صيغة المبالغة إلى أنه لا يؤاخذ لسعة صدره وطهارة أخلاقه بمطلق العدو {والله} أي الملك الأعظم {على ما نقول} أي كله في هذا الوقت وغيره {وكيل} أي شاهد وحفيظ قاهر عليه وملزم به في الدنيا والآخرة، فما الظن بما وقع بيننا من العهد من النكاح والأجر والأجل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7